ِشهادات مروعة تكشف الواقع المرير للقطاع الصحي في غزة.. ما القصة؟
عبده حسن مصر 2030قبل أيام قليلة من وصوله إلى مستشفى خارج رفح في قطاع غزة، استيقظ الدكتور عمر التاجي، طبيب المسالك البولية الذي يعمل عادة في مانشستر، في الساعة الثانية صباحًا لإجراء عملية جراحية لحالة عاجلة.
ووصف الحالة قائلاً: "تم إحضار رجل في الثلاثينيات من عمره بعد أن تم قصف المبنى الذي كان يملكه بالكامل، كان لديه جرح مفتوح في بطنه، وكانت يده تسقط، وكان كاحليه مشوهين بالكامل."
وتم نقل الرجل بسرعة إلى غرفة العمليات، وعلق التاجي: "لقد اخترقته الشظية بالكامل، ولم أر شيئًا كهذا من قبل."
وأجرى الأطباء عملية جراحية ونجا المريض، لكنه توفي بعد يومين بسبب فشل كلوي ناجم عن تعفن الدم بسبب نقص غسيل الكلى.
وأكد: "لم يكن هذا ليحدث في نظام رعاية صحية يتمتع بالموارد الكافية."
كما كان التاجي جزءًا من مجموعة من الأطباء الدوليين الذين قضوا ثلاثة أسابيع في غزة، عملوا تحت مظلة منظمة الصحة العالمية، بحسب "جارديان".
وكانت هذه الزيارة فرصة لرؤية النظام الصحي المتأثر بالهجمات الإسرائيلية المستمرة على غزة، حيث لم تعد عشرين مستشفى قائمة.
ووصل الفريق الطبي إلى المستشفى الأوروبي بالقرب من خان يونس في بداية شهر مايو، حاملاً حقائب مليئة بالمواد الطبية الأساسية، بما في ذلك الأدوية والأدوات الجراحية وصناديق كواليتي ستريت، خصيصًا للأطفال.
وعندما وصلوا إلى غزة، واجهوا واقعًا أكثر صعوبة مما توقعوا. وأوضح التاجي: "اعتقدت أنني مستعد ذهنيًا، ولكن ما شهدناه في غزة كان أبعد مما كنت أتخيل."
فمنذ بدء الهجوم الإسرائيلي في أكتوبر الماضي، قتل نحو 36 ألف فلسطيني في غزة، وتعرضت مرافق الرعاية الصحية والعاملين فيها لأكثر من 400 هجوم، ووفقًا للوزارة، قتل ما لا يقل عن 340 عاملًا في مجال الرعاية الصحية.
وفيما يتعلق بالهجمات، أكد متحدث باسم الجيش الإسرائيلي التزامهم بتخفيف الأضرار المحتملة للمدنيين، والامتثال للالتزامات القانونية الدولية، بما في ذلك قانون النزاعات المسلحة.
وأثناء وصول الأطباء إلى المستشفى للمرة الأولى، واجهوا مشهد الآلاف من العائلات الفلسطينية المحاصرة في الخيام والملاجئ المؤقتة، وجدوا أسراً تعيش في ظروف يائسة داخل المستشفى، حيث امتلأت الممرات والسلالم بالنازحين، مما جعل من الصعب على الأطباء الوصول إليهم.
ووصف الجراح العظمي، الدكتور محمد طاهر، الوضع بأنه "لا يمكن تبريره بأي شكل من الأشكال"، حيث شهدوا حالات وفاة لأطفال فور وصولهم، وطلب منهم أولياء الأمور محاولة إنعاش أطفالهم الذين لم يظهروا أي علامة على الحياة، ثم يتركونهم وهم يحملون أجسادهم الصغيرة في صناديق من الورق المقوى.
كان اتخاذ قرارات الفرز من بين أصعب التحديات التي واجهها الأطباء، حيث كان عليهم في بعض الأحيان ترك المصابين بجروح خطيرة للموت لضمان استخدام الموارد بشكل أفضل.
وتعاون الأطباء الأجانب مع الفلسطينيين في المستشفى، حيث كان الكثيرون منهم يعيشون في خيام خارجه، وكانت جزءًا أساسية من مهمتهم تدريب الطاقم الطبي المحلي.
ووفقًا لطاهر، فإن طلاب الطب الفلسطينيين هم الأبطال الحقيقيين، حيث يأتون للتدريب من دون مقابل، ويسعون جاهدين لدعم النظام الصحي المتضرر بشكل كبير.
وفي زيارة لمستشفيي ناصر والشفاء، اكتشف الأطباء مواقع مقابر جماعية لمئات الفلسطينيين، والعديد منهم كانوا مقيدين وجردوا من ملابسهم، وفقًا لتقارير من مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
وتعبر الدكتورة لورا سوبودا، أخصائية العناية بالجروح من ولاية ويسكونسن، عن رعبها قائلة: "كان المنظر مروعًا للغاية، فالدمار الذي رأيناه لم يشبه أي شيء سابقاً، وما زالت الجثث تحت الأنقاض، ونستشعر رائحة الموت في كل مكان".
كما تضيف سوبودا أنها وسط الحطام شاهدت سيارات الإسعاف المقلوبة ومركز غسيل الكلى المحترق، وكانت الإمدادات الطبية متناثرة في كل مكان، بينما كان صوت أكياس الجثث السوداء يرافقها مع صوت الرياح.
وتقول: "رأينا ملاحظات مكتوبة على جدران غرف العمليات، كتبها الأطباء الذين كانوا مختبئين هناك، ووجدت إصبع بشري وسط الأنقاض، كانت الأمور تشبه فيلم رعب".
فعندما قررت الدكتورة أهلية قطان وزوجها الدكتور سمير خان الانضمام إلى البعثة، فقد عرض والداهما مجالسة الأطفال، حيث بقيا مشغولين بمشاهدة مقاطع الفيديو المروعة للأطفال الفلسطينيين المصابين والمتوفين على صفحات التواصل الاجتماعي، متسائلين ماذا لو كان هؤلاء الأطفال أطفالهم.
وخلال فترة وجودهما في غزة، شاهد الزوجان، اللذان هما طبيبان تخدير، مئات المرضى، معظمهم من النساء والأطفال، لكن هناك حالة واحدة بالذات لم يتمكنوا من نسيانها.
وفي إحدى الأيام، وجدت قطان طفلاً صغيراً مضطرباً يرقد على النقالة، بحجم يشبه ابنها البالغ من العمر أربع سنوات، قالت: "كان يديه الرضيعتين تشبهان يدي طفل صغير، اسمه محمود، وكان ضحية حملة قصف إسرائيلية، حيث احترق 75% من جسده، وكانت حواجبه محروقة وشعره يفوح برائحة الدخان".
وبينما كان محمود يبكي من الألم، كشفت الفحوصات الطبية أن لديه طحال محطمة ورئتين متضررتين، وتقول قطان وهي تكبت دموعها: "لم نكن مجهزين بالموارد اللازمة لإنقاذه، فقد توفي أمام أعيننا ببطء، وأتمنى لو كنت قادرة على حمايته، كان لديه أربع سنوات فقط".
وعندما بدأت إسرائيل هجماتها على رفح، أصبحت القنابل تتساقط قريبة جداً من منزلهم، وأدت الانفجارات العنيفة إلى تدمير جدران غرفهم، وأصبح صوت المدافع مستمرًا في الخلفية، وفي إحدى الليالي، اعتبر الأطباء أن الوضع لم يعد آمنًا، فقرروا الانتقال إلى المستشفى الأوروبي وناموا هناك على الأرض بزيهم الطبي.
فمنذ الوصول إلى هناك، يؤكد الأطباء تدهور الحالة بشكل مستمر. فالوقود في المستشفى قليل، وغالباً ما يتوقف المولد أثناء الجراحات، مما يجعل الغرف تغمرها الظلام.
كما أن الإمدادات الطبية تقترب من النفاد، وبعد إجلائهم، لم يستطع أحد استبدالهم، مما يترك المستشفى بأقل عدد من العاملين لرعاية المرضى بموارد متناقصة.
وعلى الرغم من المخاطر التي واجهوها بعد عودتهم إلى ديارهم، كانت لدى العديد من الأطباء مشاعر متضاربة بشأن مغادرة غزة.
ويقول التاجي: "عندما استيقظت لأول مرة دون أصوات الغارات الجوية وإطلاق النار، توجهت أفكاري على الفور إلى أولئك الذين تركتهم خلفي". "لا يمكننا أن ننظر بعيداً. وفي مواجهة هذه المعاناة الهائلة، من واجبنا جميعاً أن نتحرك".