هشام يونس يكتب: أن يكون لك صديق في غزة
مصر 2030بينما تجري عيناي على شريط الأنباء، بحثا عن ما لا أريد أن أرى، وما أتجنب أن أسمع، وفيما تحتلني ميليشيات الخوف، وأنا أتابع على شاشات التلفاز أخبار القصف الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة، فإن سهامًا تنطلق من مخيمات القلق في رأسي، مخترقة قبتها العظمية، لترشق المآقي التي تحجرت، وهي تبحث عن طوفان من الدمع يتمرد عاصيًا أن يترنح على وجنتي مخففا للأوجاع ومسكنا للآلام.
مأساة لا يد لك فيها أن تكون من أهل قطاع غزة المحاط بالمستوطنات الإسرائيلية من كل جهة عدا البحر أو الحدود المصرية، وأن تكون بنادق المستوطنين، وفوهات المدافع وأبراج الدبابات والزوارق الحربية هو ما تصطدم به عيناك إذا وليت وجهك نحو أطراف القطاع وحوافه.
السجن المزدحم
وعندما تشاء أقدارك أن تسكن في غزة فليس لديك فرصة لأن تتحرك سوى بضعة كيلو مترات داخل غابات كثيفة من الأسمنت تتشابك في مربعات سكنية مزدحمة في منطقة هي الأكثر كثافة في العالم.
مأساة أخرى أن تكون في غزة الآن لتكون جزءا مما يحدث من فظائع القتل العشوائي أو أن تكون بين أنقاض البيوت والأحياء المهدمة، وأن ترى وربما تشارك في جمع الأشلاء التي تناثرت حولك في محاولة بائسة لدفنها، وأن تحتمي من قصف البيوت الوحشي بالعراء لتكون عرضة لقصف جديد من جيش غير آدمي يعتبر الإنسان الفلسطيني هدفًا عسكريًا مشروعًا أينما كان.
مأساة أن تبحث عن شربة ماء نظيفة فلا تجد رشفة، وعن رغيف خبز صالح فلا تجد كسرة، وعن سوق ولو صغير لتشتري أي شيء فلا تجد غير الحطام، وعن مستشفى لتداوي أي علة فلا تجد غير الألم، وعن هواء نقي تتنفسه فلا تجد سوى غبار القذائف ورائحة الموت محملة بالقنابل المسموحة والممنوعة.
مآسي الصحافة
مأساة أن تكون شاهد عيان على جرائم لا يهتز لها ضمير المجتمع الدولي والحكومات الغربية التي تتحكم في مصير العالم، وأن تحاصرك رغم بؤس الأحوال مصالح "مافيا الإعلام الدولي"، التي تتاجر في الكذب وتحترف التدليس وتزين التضليل وتحتفي بالقتلة وتجلد الضحايا بمداد عنصرية بغيضة، وعمى دائم.
مأساة إضافية أن تكون صحفيًا تقودك أقدارك أن تعمل في قطاع غزة، وأن يكون عملك الذي تعيش منه هو رصد الأوجاع وتصوير المآسي وكتم مشاعرك بين هذا وذاك، وأن تطارد أخبار الدم المراق والأرض المستباحة، والكرامة المهدرة، والأجساد السيارة في مرمى النيران.
أن يكون حيك الذي ولدت فيه، وربما بيتك سطرًا في خبر عن المنازل المنكوبة، وأن تكون أسرتك الصغيرة أو عائلتك الكبيرة مجرد رقم بين إحصاء الضحايا الذين قضوا دون ذنب وتصدره وزارة الصحة كل يوم.
أن تخرج من بيتك وأنت على يقين أن عيونك قد تتمسح في أبوابه وتلثم نوافذه، وتصافح جدرانه لآخر مرة، وأنك إذا عدت إليه سالما فربما لن تجده كذلك.
أن تذهب للعمل بمشاعر الراحلين، وانقباضات المودعين، وأن يكون زيك الصحفي المميز ودرعك الواقي هو كفنك الأخير، لأنه لا وقت في غزة لطقوس الدفن، وتفاصيله، فقد أضحت جثامين الشهداء سيلًا لا يوقفه سد ولا يمتصه واد ولا يستقبله بحر.
مأساة أن تحمل آلتك الفوتوغرافية لتكون مصيدة لعمرك الغض وأنت تلتقط بها صورة قاتلك الأخيرة قبل أن تكون هدفا لنيرانه الحاقدة.
أن يكون هاتفك وقلمك وبضع أوراق وخوذتك الواقية تأشيرة دائمة، لإدخالك إلى عالم الشهداء من معبر مفتوح دوما للفلسطينيين فقط على بوابات الحياة الآخرة.
أن تلهث وراء خبر وألا يسمح لك بالحزن أو البكاء أو حتى العبرات الساخنة، وأن ترفع دائما شعار "كل هذا سيمر"، حتى وإن طعنتك صرخات الصغار، وهم يئنون من الوجع، حتى وإن افترسك نحيب الثكالى، واليتامى، فالنشرة القادمة لن تنتظرك أن تكفكف دمعك، و"رأس الساعة" في قنوات الأخبار لن ينتظر رأسك المزدحم بالهموم ليصفو، وإعداد التقارير لن ينتظر انفراج الأسارير، وإن طال كمدك واستطال كبدك.
لا أريد خبرا عن صديقي
مأساة مُربكة أن يكون لك صديق في غزة تطل كل دقيقة على الشاشة وأنت تتمنى ألا ترى اسمه أو وصفه، وألا ترى بيته أو محل عمله يمر أمامك في لقطة بطيئة تشي بالخراب السريع الذي حل بالمدينة المنكوبة.
مأساة أن يكون لك صديق في غزة، زرت معه أم الشهيد الطفل فارس عودة (شهيد الدبابة) في حي الشجاعية وهاجت عبراتك مع دموعها أو تلقاك عند المعبر رافضًا أن تذهب إلى فندقٍ لتقيم فيه خلال مهمتك الصحفية أو قضيت ليالٍ في بيته القديم بمخيم الشاطئ، وصب أبوه الماء عليك من إبريق قديم لتغتسل، أو تقلبتما في القاهرة بين جريدة الأهرام ونقابة الصحفيين والمطاعم الشعبية والمقاهي القديمة، والمساجد العتيقة، وعلى ضفاف النيل، أو في زيارات جرحى الاحتلال الذين يعالجون في مستشفيات المحروسة.
مأساة أن تعرف أصدقاء في غزة وتتحدث معهم طوال سنوات بشكل شبه يومي، وفجأة تختفي الدائرة الخضراء الصغيرة التي تشير أنهم موجودون معك على الخط في الجانب الآخر من الحدود (on line)، وفجأة تسكت كل وسائل التواصل مع اشتداد القصف على غزة، وإذا صوت الإشعارات، قد اختفى ولا مجيب غير الصمت.
عاصمة المآسي
مأساة أن تعرف أحمد عودة الذي كان والده من منكوبي 48 وتم تهجيره من صفد فيكتب إليك ردًا مقتضبًا بعد عشرات الرسائل "تهجير جديد.. نزحنا.. دعواتكم".
مأساة أن تعرف وليد اللوح فلا يرد على هاتفه الذي طالما زغرد حين نتواصل، وحين تتاح له 5 دقائق من الكهرباء يكتب على صفحته "نحن من لحم ودم، ولدنا بعد تسع شهور، لنا عينان تغمضان حين ننام، وتفتح حين نستيقظ، ولنا تاريخ ميلاد، ونكبر، ونتزوج، وننجب أطفالًا. نحب، ونكره، نفرح ونحزن، نموت ونحيا. لكن ما يميزنا أننا نسكن في سجن كبير، نُقتل والعالم يتفرج علينا، وتسكن طائرات الموت في سمائنا، وتهدم بيوتنا على رؤوسنا، وأصوات القنابل تصيبنا بالصرع، ويطلب منا أن نسكت!.. لا أحد يمكنه تخيل بشاعة الحرب إن لم يعشها.. هنا غزة".
مأساة أن تعرف سامي أبو سالم الذي اعتدت أن تطل عليه مازحًا أو مجادلًا حين ينتقد بلا هوادة، ويسخر من أي سلطة، وحين تصحو من نومك المتقطع تجده أرسل لك على الخاص بمداد الوجع: "هشام، لا نزال أحياء بالصدفة، المجرمون يستهدفون بيوتًا بسكانها ودون أي تحذير أو تنبيه.
مواطنون عاديون يُقتلون وهم نائمون، لم يعد هناك أخبار عن قتل فردي، الشهداء عائلات بأكملها، وعبر الإعلام طلبوا من مواطنين الخروج لمناطق وسط البلد في خان يونس وعندما ذهبوا هناك تعرضوا للقصف.. بحر من الدم.. شهداء وجرحى تحت الأنقاض ولا طواقم إنقاذ كافية، غارات جوية لا تتوقف، قتل دون تمييز، قتل من أجل القتل فقط، عائلات تُباد، الصحفيون والطواقم الطبية يستهدفون أيضا.. ربما نموت في أي لحظة".
مأساة أن يكون لك أصدقاء في غزة لا تعرف أخبارهم منذ أيام وأن لا تكون لأحدهم فرصة ليعرف كم تحبه، وكم تكره شعور العجز الذي يحكمك دون اختيار، وأنت تضغط على زر صغير بعصبية لتنتقل من شاشة قناة لأخرى، بينما هو يضغط على الأكف الرقيقة ليهدهد خوف صغاره.
مأساة ألا تكون لأحدهم فرصة ليقرأ كلماتك فقط لأنه ربما يكون مدفونًا تحت الأنقاض أو يعيش حتى الآن محتضنًا أطفاله وأمه العجوز في مكان ما بأطلال غزة عاصمة المآسي والنكبة الجديدة.